فصل: تفسير الآيات رقم (56- 58)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 24‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏20‏)‏ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏21‏)‏ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏22‏)‏ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏23‏)‏ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وإن أردتم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ أي‏:‏ إذا أراد الرَّجل طلاق امرأته، وتزوَّج غيرها لم يكن له أن يرجع فيما آتاها من المهر، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وآتيتم إحداهنَّ قنطاراً‏}‏ أَيْ‏:‏ مالاً كثيراً ‏{‏فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً‏}‏ ظلماً ‏{‏وإثماً مبيناً‏}‏ وفي هذا نَهْيٌّ عن الضِّرار في غير حال الفاحشة، وهو أنْ يضارَّها لتفتدي منه من غير أَنْ أتت بفاحشة‏.‏

‏{‏وكيف تأخذونه‏}‏ أَي‏:‏ المهر أو شيئاً منه ‏{‏وقد أفضى بعضكم إلى بعض‏}‏ أَيْ‏:‏ وصل إليه بالمجامعة، ولا يجوز الرُّجوع في شيءٍ من المهر بعد الجماع ‏{‏وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً‏}‏ وهو ما أخذه الله على الرِّجال للنِّساء من إمساكٍ بمعروفٍ، أو تسريحٍ بإحسانٍ‏.‏

‏{‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ كان الرَّجل من العرب يتزوَّج امرأة أبيه من بعده، وكان ذلك نكاحاً جائزاً في العرب، فحرَّمه الله تعالى ونهى عنه، وقوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ ما قد سلف‏}‏ يعني‏:‏ لكن ما قد سلف فإنَّ الله تجاوز عنه ‏{‏إنَّه‏}‏ أيْ‏:‏ إنَّ ذلك النِّكاح ‏{‏كان فاحشة‏}‏ زنا عند الله ‏{‏ومقتاً‏}‏ بغضاً شديداً ‏{‏وساء سبيلاً‏}‏ وقَبُحَ ذلك الفعل طريقاً، ثمَّ ذكر المحرَّمات من النِّساء فقال‏:‏

‏{‏حرِّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم‏}‏ جمع الرَّبيبة، وهي بنت امرأة الرَّجل من غيره ‏{‏اللاتي في حجوركم‏}‏ أيْ‏:‏ في ضمانكم وتربيتكم ‏{‏وحلائل‏}‏ وأزواج ‏{‏أبنائكم الذين من أصلابكم‏}‏ لا مَنْ تبنَّيتموه ‏{‏وأن تجمعوا‏}‏ أَيْ‏:‏ الجمع ‏{‏بين الأختين إلاَّ ما قد سلف‏}‏ مضى منكم في الجاهلية، فلا تُؤاخذون به بعد الإِسلام‏.‏

‏{‏والمحصنات‏}‏ وذوات الأزواج ‏{‏من النساء‏}‏ وهنَّ مُحرَّمات على كلِّ أحدٍ غير أزواجهنَّ إلاَّ ما ملكتموهنَّ بالسَّبي من دار الحرب؛ فإنَّها تحلُّ لمالكها بعد الاستبراء بحيضة ‏{‏كتاب الله عليكم‏}‏ كتب تحريم ما ذكر من النِّساء عليكم ‏{‏وأحلَّ لكم ما وراء ذلكم‏}‏ أَيْ‏:‏ ما سوى ذلكم من النِّساء ‏{‏أن تبتغوا‏}‏ أَيْ‏:‏ تطلبوا بأموالكم؛ إمَّا بنكاحٍ وصداقٍ؛ أو بملكِ يمينٍ ‏{‏محصنين‏}‏ ناكحين ‏{‏غير مسافحين‏}‏ زانين ‏{‏فما استمتعتم‏}‏ فما انتفعتم وتلذَّذتم ‏{‏به منهنَّ‏}‏ أي‏:‏ من النساء بالنِّكاح الصَّحيح ‏{‏فآتوهنَّ أجورهنَّ‏}‏ أَيْ‏:‏ مهورهنَّ ‏{‏فريضة‏}‏، فإن استمتع بالدُّخول بها آتى المهر تامّاً، وإن استمتع بعقد النِّكاح آتى نصف المهر ‏{‏ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة‏}‏ من حطِّ المهر أو إبراءٍ من بعض الصَّداق أو كلِّه ‏{‏إنَّ الله كان عليماً‏}‏ بما يصلح أمر العباد ‏{‏حكيماً‏}‏ فيما بيَّن لهم من عقد النِّكاح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 30‏]‏

‏{‏وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏25‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏26‏)‏ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ‏(‏27‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ‏(‏28‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏29‏)‏ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏ومَنْ لم يستطع منكم طولاً‏}‏ أَيْ‏:‏ قدرةً وغنىً ‏{‏أن ينكح المحصنات‏}‏ الحرائر ‏{‏المؤمنات فمن مّا ملكت أيمانكم‏}‏ أَيْ‏:‏ فليتزوَّج ممَّا ملكت أيمانكم‏.‏ يعني‏:‏ جارية غيره ‏{‏من فتياتكم‏}‏ أَيْ‏:‏ مملوكاتكم ‏{‏المؤمنات والله أعلم بإيمانكم‏}‏ أَي‏:‏ اعملوا على الظَّاهر في الإِيمان؛ فإنَّكم مُتعبَّدون بما ظهر، والله يتولَّى السَّرائر ‏{‏بعضكم من بعض‏}‏ أَيْ‏:‏ دينكم واحدٌ، فأنتم متساوون من هذه الجهة، فمتى وقع لأحدكم الضَّرورة جاز له تزوُّج الأَمَة ‏{‏فانكحوهنَّ بإذن أهلهن‏}‏ أَي‏:‏ اخطبوهنَّ إلى ساداتهنَّ ‏{‏وآتوهنَّ أجورهنَّ‏}‏ مهورهنَّ ‏{‏بالمعروف‏}‏ من غير مطلٍ وضرارٍ ‏{‏محصنات‏}‏ عفائفَ ‏{‏غير مسافحات‏}‏ غير زوانٍ علانيةً ‏{‏ولا متخذات أخذان‏}‏ زوانٍ سرَّاً ‏{‏فإذا أُحصن‏}‏ تزوَّجن ‏{‏فإن أتين بفاحشة‏}‏ بزنا ‏{‏فعليهنَّ نصف ما على المحصنات‏}‏ الأبكار الحرائر ‏{‏من العذاب‏}‏ أَي‏:‏ الحدِّ‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ ذلك النِّكاح نكاح الأَمَة ‏{‏لمن خشي العنت منكم‏}‏ أَيْ‏:‏ خاف أن تحمله شدَّة الغِلمة على الزِّنا، فيلقى العنت، أَي‏:‏ الحدَّ في الدُّنيا، والعذاب في الآخرة‏.‏ أَباحَ الله نكاح الأمَة بشرطين‏:‏ أحدهما‏:‏ عدم الطَّول، الثاني‏:‏ خوف العَنَت‏.‏ ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏وأن تصبروا‏}‏ أَيْ‏:‏ عن نكاح الإِماء ‏{‏خيرٌ لكم‏}‏ لئلا يصير الولد عبداً‏.‏

‏{‏يريدُ الله ليبيِّن لكم‏}‏ شرائع دينكم، ومصالح أمركم ‏{‏ويهديكم سنن الذين من قبلكم‏}‏ دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام، وهو دين الحنيفيَّة ‏{‏ويتوب عليكم‏}‏ يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته‏.‏

‏{‏واللَّهُ يريد أن يتوب عليكم‏}‏ أَيْ‏:‏ يُخرجكم من كلِّ ما يكره إلى ما يحبُّ ويرضى، ‏{‏ويريد الذين يتبعون الشهوات‏}‏ وهم الزُّناة وأهل الباطل في دينهم ‏{‏أن تميلوا‏}‏ عن الحقِّ وقصد السِّبيل بالمعصية ‏{‏ميلاً عظيماً‏}‏ فتكونوا مثلَهم‏.‏

‏{‏يريد الله أن يخفف عنكم‏}‏ في كلِّ أحكام الشَّرع ‏{‏وخلق الإِنسان ضعيفاً‏}‏ يضعف من الصَّبر عن النِّساء‏.‏

‏{‏يا أَيُّها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ وهو كلُّ ما لا يحلُّ في الشَّرع، كالرِّبا، والغصب، والقمار، والسَّرقة، والخيانة ‏{‏إلاَّ أن تكون تجارةً‏}‏ لكن إن كانت تجارة ‏{‏عن تراضٍ منكم‏}‏ برضى البَيِّعْين فهو حلال ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ لا يقتل بعضكم بعضاً‏.‏

‏{‏ومَنْ يفعل ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ أكل المال بالباطل وقتل النَّفس ‏{‏عدواناً‏}‏ وهو أن يعدوَ ما أُمر به ‏{‏وظُلماً فسوف نصليه‏}‏ أَيْ‏:‏ نُدخله ناراً ‏{‏وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏ أَيْ‏:‏ هو قادر على ذلك، ولا يتعذَّر عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 35‏]‏

‏{‏إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏32‏)‏ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏33‏)‏ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ‏(‏34‏)‏ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه‏}‏ وهي كلُّ ذنبٍ ختمه اللَّهُ بنارٍ، أو غضبٍ، أو لعنةٍ، أو عذابٍ، أو وعيدٍ في القرآن ‏{‏نكفر عنكم سيئاتكم‏}‏ التي هي دون الكبائر بالصَّلوات الخمس ‏{‏وندخلكم مدخلاً كريماً‏}‏ أَيْ‏:‏ الجنَّة‏.‏

‏{‏ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ قالت أمُّ سلمة‏:‏ يا رسول الله، ليتنا كنَّا رجالاً، فجاهدنا وغزونا، وكان لنا مثل أجر الرِّجال، فنزلت هذه الآية‏.‏ ‏{‏للرجال نصيب‏}‏ ثواب ‏{‏مما اكتسبوا‏}‏ من الجهاد ‏{‏وللنساء نصيبٌ‏}‏ ‏[‏ثوابٌ‏]‏ ‏{‏ممَّا اكتسبن‏}‏ من حفظ فروجهنَّ وطاعة أزواجهنَّ ‏{‏واسألوا الله من فضله‏}‏ إن احتجتم إلى مَا لِغَيركم فيعطيكم من فضله‏.‏

‏{‏ولكلٍّ‏}‏ أَيْ‏:‏ ولكلِّ شخصٍ من الرِّجال والنِّساء ‏{‏جعلنا موالي‏}‏ عصبة وورثة ‏{‏ممَّا ترك الوالدان والأقربون‏}‏ أَيْ‏:‏ ممَّن تركهم والداه وأقربوه، أَيْ‏:‏ تشعَّبت العصبة والورثة عن الوالدين والأقربين، ثمَّ ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏والذين عقدت أيمانكم‏}‏ وهم الحلفاء، أَيْ‏:‏ عاقدت حلفَهم أيمانُكم، وهي جمع يمين من القَسَم، وكان الرَّجل في الجاهليَّة يعاقد الرَّجل، ويقول له‏:‏ دمي دمُّك، وحربي حربُك، وسلمي سلمُك، فلمَّا قام الإِسلام جعل للحليف السُّدس، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فآتوهم نصيبهم‏}‏ ثمَّ نسخ ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وأولوا الأرحام بعضُهم أولى ببعضٍ في كتاب الله‏}‏ ‏{‏إنَّ الله كان على كلّ شيء شهيداً‏}‏ أَيْ‏:‏ لم يغب عنه علم ما خلق‏.‏

‏{‏الرجال قوَّامون على النساء‏}‏ على تأديبهنَّ والأخذ فوق أيديهنَّ ‏{‏بما فضَّل الله‏}‏ الرِّجال على النِّساء بالعلم، والعقل، والقوَّة في التَّصرف، والجهاد، والشَّهادة، والميراث ‏{‏وبما أنفقوا‏}‏ عليهنَّ ‏{‏من أموالهم‏}‏ أَي‏:‏ المهر والإِنفاق عليهنَّ ‏{‏فالصالحات‏}‏ من النِّساء اللواتي هنَّ مطيعاتٌ لأزواجهنَّ، وهو قوله‏:‏ ‏{‏قانتات حافظاتٌ للغيب‏}‏ يحفظن فروجهنَّ في غيبة أزواجهنَّ ‏{‏بما حفظ الله‏}‏ بما حفظهنَّ الله في إيجاب المهر والنَّفقة لهنَّ، وإيصاء الزَّوج بهنَّ ‏{‏واللاتي تخافون‏}‏ تعلمون ‏{‏نشوزهنَّ‏}‏ عصيانهنَّ ‏{‏فعظوهنَّ‏}‏ بكتاب الله، وذكِّروهنَّ الله وما أمرهنَّ به ‏{‏واهجروهن في المضاجع‏}‏ فرِّقوا بينكم وبينهم في المضاجع ‏[‏في الفرش‏]‏ ‏{‏واضربوهنَّ‏}‏ ضرباً غير مبرِّح شديد، وللزَّوج أن يتلافى نسوز امرأته بما أذن الله تعالى فيه، يعظها بلسانه، فإنْ لم تنتهِ هجر مضجعها، فإنْ أبت ضربها، فإن أبت أن تتَّعظ بالضرب بُعثَ الحكمان ‏{‏فإن أطعنكم‏}‏ فيما يُلتمس منهنَّ ‏{‏فلا تبغوا عليهنَّ سبيلاً‏}‏ لا تتجنَّوا عليهنَّ من العلل‏.‏

‏{‏وإنْ خفتم‏}‏ ‏[‏علمتم‏]‏ ‏{‏شقاق بينهما‏}‏ علمتم خلافاً بين الزَّوجين ‏{‏فابعثوا حكماً‏}‏ أَيْ‏:‏ حاكماً وهو المانع من الظُّلم من أقاربه ‏{‏وحَكَماً من أهلها‏}‏ حتى يجتهدا وينظرا الظَّالم منهما، فيأمراه بالرُّجوع إلى ما أمر الله، أو يُفرِّقا إنْ رأيا ذلك ‏{‏إن يريدا‏}‏ أَي‏:‏ الحكمان ‏{‏إصلاحاً يوفق الله بينهما‏}‏ مِن الزَّوج المرأة بالصَّلاح ‏{‏إنَّ الله كان عليماً خبيراً‏}‏ بما في قلوب الزَّوجين والحكمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 42‏]‏

‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ‏(‏36‏)‏ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ‏(‏38‏)‏ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ‏(‏41‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وبالوالدين أحساناً‏}‏ أَيْ‏:‏ أحسنوا بهما إحساناً، وهو البرُّ مع لين الجانب ‏{‏وبذي القربى‏}‏ وهو ذو القرابة يصله ويتعطَّف عليه ‏{‏واليتامى‏}‏ يرفق بهم ويُدنيهم ‏{‏والمساكين‏}‏ ببذلٍ يسيرٍ، أو ردٍّ جميلٍ ‏{‏والجار ذي القربى‏}‏ وهو الذي له مع حقِّ الجوار حقُّ القرابة ‏{‏والجار الجنب‏}‏ البعيد عنك في النَّسب ‏{‏والصاحب بالجنب‏}‏ هو الرَّفيق في السَّفر ‏{‏وابن السبيل‏}‏ عابر الطَّريق‏.‏ ‏[‏وقيل‏:‏ الضيف‏]‏ يؤويه ويطعمه حتى يرحل ‏{‏وما ملكت أيمانهم‏}‏ أَيْ‏:‏ المماليك ‏{‏إنَّ الله لا يحبُّ مَنْ كان مختالاً‏}‏ عظيماً في نفسه لا يقوم بحقوق الله ‏{‏فخوراً‏}‏ على عباده بما خوَّله الله من نعمته‏.‏

‏{‏الذين يبخلون‏}‏ أي‏:‏ اليهود‏.‏ بخلوا بأموالهم أن ينفقوها في طاعة الله تعالى ‏{‏ويأمرون الناس بالبخل‏}‏ أمروا الأنصار ألا ينفقوا أموالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا‏:‏ إنَّا نخشى عليكم الفقر ‏{‏ويكتمون ما آتاهم الله من فضله‏}‏ أَيْ‏:‏ ما في التَّوراة من أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونعته‏.‏

‏{‏والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس‏}‏ أَيْ‏:‏ المنافقين ‏{‏ومَنْ يكن الشيطانُ له قريناً‏}‏ يسوِّل له ويعمل بأمره ‏{‏فساء قريناً‏}‏ بئس الصَّاحب الشَّيطان‏.‏

‏{‏وماذا عليهم‏}‏ أَيْ‏:‏ على اليهود والمنافقين، أَيْ‏:‏ ما كان يضرُّهم ‏{‏لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا ممَّا رزقهم الله وكان الله بهم عليماً‏}‏ لا يُثيبهم بما ينفقون رئاء النَّاس‏.‏

‏{‏إنَّ الله لا يظلم‏}‏ لا ينقص أحداً ‏{‏مثقال‏}‏ ‏[‏مقدار‏]‏ ‏{‏ذرة‏}‏ إن كان مؤمناً أثابه عليها الرِّزق في الدُّنيا، والأجر في الآخرة، وإنْ كان كافراً أطعمه بها في الدُّنيا ‏{‏وإن تك حسنة‏}‏ من مؤمنٍ ‏{‏يضاعفها‏}‏ بعشرة أضعافها ‏{‏ويؤتِ مِنْ لدنه‏}‏ من عنده ‏{‏أجراً عظيماً‏}‏ وهو الجنَّة‏.‏

‏{‏فكيف‏}‏ أَيْ‏:‏ فكيف يكون حال هؤلاء اليهود والمنافقين ‏[‏يوم القيامة‏]‏‏؟‏، وهذا استفهامٌ ومعناه التَّوبيخ ‏{‏إذا جئنا من كلِّ أُمَّة بشهيدٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ بِنبيِّ كلِّ أُمَّةٍ يشهد عليها ولها ‏{‏وجئنا بك‏}‏ يا محمَّد ‏{‏على هؤلاء شهيداً‏}‏ على هؤلاء المنافقين والمشركين شهيداً تشهد عليهم بما فعلوا‏.‏

‏{‏يومئذٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ في ذلك اليوم ‏{‏يودُّ الذين كفروا وعصوا الرسول‏}‏ وقد عصوه في الدُّنيا ‏{‏لو تسوَّى بهم الأرض‏}‏ أَيْ‏:‏ يكونون تراباً، فيستوون مع الأرض حتى يصيروا وهي شيئاً واحداً ‏{‏ولا يكتمون الله حديثاً‏}‏ لأنَّ ما عملوه ظاهرٌ عند الله لا يقدرون على كتمانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏43‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة‏}‏ أَيْ مواضع الصَّلاة، أيْ‏:‏ المساجد ‏{‏وأنتم سكارى‏}‏ نُهوا عن الصَّلاة وعن دخول المسجد في حال السُّكْر، وكان هذا قبل نزول تحريم الخمر، وكان المسلمون بعد نزول هذه الآية يجتنبون السُّكْر والمُسكر أوقات الصَّلاة، والسَّكران‏:‏ المُختلط العقل الذي يهذي، ولا يستمرُّ كلامه، ألا ترى أنَّ الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏حتى تعلموا ما تقولون‏}‏ فإذا علم ما يقول لم يكن سكران، ويجوز له الصَّلاة ودخول المسجد ‏{‏ولا جُنباً‏}‏ أَيْ‏:‏ ولا تقربوها وأنتم جنبٌ ‏{‏إلاَّ عابري سبيل‏}‏ إلاَّ إذا عبرتم المسجد فدخلتموه من غير إقامةٍ فيه ‏{‏حتى تغتسلوا‏}‏ من الجنابة ‏{‏وإنْ كنتم مرضى‏}‏ أَيْ‏:‏ مرضاً يضرُّه الماء كالقروح، والجُدّري، والجراحات ‏{‏أو على سفر‏}‏ أَيْ‏:‏ مسافرين ‏{‏أو جاء أحدٌ منكم من الغائط‏}‏ أو الحدث ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ أَيْ‏:‏ لمستموهنَّ بأيديكم ‏{‏فلم تجدوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صعيداً طيباً‏}‏ تمسَّحوا بترابٍ طيِّبٍ مُنبتٍ‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ وهم اليهود ‏{‏يشترون الضلالة‏}‏ أَيْ‏:‏ يختارونها على الهدى بتكذيب محمَّدٍ عليه السَّلام ‏{‏ويريدون أن تضلوا السبيل‏}‏ أن تضلُّوا أيُّها المؤمنون طريق الهدى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ‏(‏45‏)‏ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏46‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏والله أعلم بأعدائكم‏}‏ فهو يُعْلِمكم ما هم عليه ‏{‏وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّ ولايته ونصرته إيَّاكم تُغنيكم عن غيره من اليهود، ومَنْ جرى مجراهم‏.‏

‏{‏ومن الذين هادوا‏}‏ أَيْ‏:‏ قومٌ ‏{‏يحرِّفون الكلم عن مواضعه‏}‏ أَيْ‏:‏ يُغيِّرون صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم وزمانه، ونبوَّته في كتابهم ‏{‏ويقولون سمعنا‏}‏ قولك ‏{‏وعصينا‏}‏ أمرك ‏{‏واسمع غير مسمع‏}‏ كانوا يقولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ اسمع، ويقولون في أنفسهم‏:‏ لا سمعت ‏{‏وراعنا ليَّاً بألسنتهم‏}‏ أَيْ‏:‏ ويقولون راعنا، ويوجِّهونها إلى شتم محمَّد عليه السَّلام بالرُّعونة، وذكرنا أنَّ هذا كان سبَّاً بلُغتهم ‏{‏ولو أنَّهم قالوا سمعنا وأطعنا‏}‏ مكان قولهم‏:‏ سمعنا وعصينا وقالوا ‏{‏واسمع وانظرنا‏}‏ أَيْ‏:‏ انظر إلينا؛ بدل قولهم‏:‏ راعنا ‏{‏لكان خيراً لهم‏}‏ عند الله ‏{‏ولكن لَعَنَهُمُ الله بكفرهم‏}‏ فلذلك لا يقولون ما هو خيرٌ لهم ‏{‏فلا يؤمنون إلاَّ قليلاً‏}‏ أَيْ‏:‏ إيماناً قليلاً، وهو قولهم‏:‏ اللَّهُ ربُّنا، والجنَّةُ حقٌّ، والنَّارُ حقٌّ، وهذا القليل ليس بشيءٍ مع كفرهم بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وليس بمدحٍ لهم‏.‏

‏{‏يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً‏}‏ أَيْ‏:‏ نمحو ما فيها من عينٍ، وفم، وأنفٍ ‏[‏ومارن‏]‏، وحاجب، فنجعلها كخفِّ البعير، أو كَحَافِرِ الدَّابة ‏{‏فنردها على أدبارها‏}‏ نُحوِّلها قبل ظهورهم ‏{‏أو نلعنهم‏}‏ أو نجعلهم قردة وخنازير كما فعلنا بأوائلهم ‏{‏وكان أمر الله مفعولاً‏}‏ لا رادَّ لحكمه ولا ناقض لأمره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 55‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ‏(‏48‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏49‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ‏(‏50‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ‏(‏51‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ‏(‏52‏)‏ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ‏(‏53‏)‏ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ‏(‏54‏)‏ فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وعد الله تعالى في هذه الآية مغفرة ما دون الشِّرك، فيعفو عن مَنْ يشاء، ويغفر لمِنْ يشاء إلاَّ الشِّرك؛ تكذيباً للقدريَّة، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ويغفر ما دون ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ الشِّرك ‏{‏لمن يشاء ومَنْ يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً‏}‏ أَيْ‏:‏ اختلق ذنباً غير مغفور‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ أَيْ‏:‏ اليهود قالوا‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه، وما عملناه باللَّيل كُفِّر عنَّا بالنَّهار، وما عملناه بالنَّهار كُفِّر عنَّا باللَّيل ‏{‏بل الله يزكِّي من يشاء‏}‏ أَيْ‏:‏ يجعل مَنْ يشاء زاكياً طاهراً نامياً في الصَّلاح‏.‏ يعني‏:‏ أهل التَّوحيد ‏{‏ولا يُظلمون فتيلاً‏}‏ لا ينقصون من الثواب قدر الفتيل، وهو القشرة الرَّقيقة التي حول النَّواة، ثمَّ عجَّب نبيَّه عليه السَّلام من كذبهم، فقال‏:‏

‏{‏انظر كيف يفترون على الله الكذب‏}‏ يعني‏:‏ قولهم‏:‏ يكفِّر عنَّا ذنوبنا ‏{‏وكفى به‏}‏ بافترائهم ‏{‏إثماً مبيناً‏}‏ أَيْ‏:‏ كفى ذلك في التَّعظيم‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ علماء اليهود ‏{‏يؤمنون بالجبت‏}‏ أَيْ‏:‏ الأصنام ‏{‏والطاغوت‏}‏ سدنتها وتراجمتها، وذلك أنَّهم حالفوا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجدوا لأصنام قريش، وقالوا لهم‏:‏ أنتم أهدى من محمَّدٍ عليه السَّلام، وأقوم طريقةً وديناً، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ويقولون للذين كفروا‏}‏ يعني‏:‏ قريشاً ‏{‏هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً‏}‏، وقوله‏:‏

‏{‏أم لهم نصيبٌ‏}‏ أَيْ‏:‏ بل أَلهم نصيب من الملك‏؟‏ يعني‏:‏ ليس لليهود ملك، ولو كان إذاً لهم لم يُؤتوا أحداً شيئاً، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً‏}‏ أَيْ‏:‏ لضنُّوا بالقليل‏.‏ وصفهم الله بالبخل في هذه الآية، والنَّقير يُضرب مثلاً للشَّيء القليل، وهو نقرةٌ في ظهر النَّواة ‏[‏منها‏]‏ تنبت النَّخلة‏.‏

‏{‏أم يحسدون الناس‏}‏ يعني‏:‏ محمَّداً عليه السَّلام ‏{‏على ما آتاهم الله من فضله‏}‏ حسدت اليهود محمَّداً عليه السَّلام على ما آتاه الله من النُّبوَّة، وما أباح له من النِّساء، وقالوا‏:‏ لو كان نبيَّاً لشغله أمر بالنُّبوَّة عن النِّساء، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة‏}‏ يعني‏:‏ النُّبوَّة ‏{‏وآتيناهم ملكاً عظيماً‏}‏ يعني‏:‏ ملك داود وسليمان عليهما السَّلام، وما أُوتوا من النِّساء، فكان لداود تسعٌ وتسعون، ولسليمان ألفٌ من بين حُرَّةٍ ومملوكةٍ، والمعنى‏:‏ أيحسدون النَّبيَّ عليه السَّلام على النُّبوَّة وكثرة النِّساء وقد كان ذلك في آله؛ لأنَّه من آل إبراهيم عليه السَّلام‏.‏

‏{‏فمنهم‏}‏ من أهل الكتاب ‏{‏من آمن به‏}‏ بمحمَّدٍ عليه السَّلام ‏{‏ومنهم مَن صدَّ عنه‏}‏ أعرض عنه فلم يؤمن ‏{‏وكفى بجهنَّم سعيراً‏}‏ عذاباً لمَنْ لا يؤمن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 58‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ‏(‏57‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها‏}‏ يعني‏:‏ أنَّ جلودهم إذا نضجت واحترقت جُدِّدت، بأن تُردَّ إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة ‏{‏ليذوقوا العذاب‏}‏ ليقاسوه وينالوه ‏{‏إنَّ الله كان عزيزاً‏}‏ قوياً لا يغلبه شيء ‏{‏حكيماً‏}‏ فيما دبَّر، وقوله‏:‏

‏{‏وندخلهم ظلاً ظليلاً‏}‏ يعني‏:‏ ظلَّ هواء الجنَّة، وهو ظليلٌ، أَيْ‏:‏ دائمٌ لا تنسخه الشَّمس‏.‏

‏{‏إنَّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏}‏ نزلت في ردِّ مفتاح الكعبة على عثمان بن طلحة الحجبيِّ حين أُخذ منه قسراً يوم فتح مكة، فأمره الله تعالى بردِّه عليه، ثمَّ هذه الآية عامَّةٌ في ردِّ الأمانات إلى أصحابها كيف ما كانوا ‏{‏إنَّ الله نِعِمَّا يعظكم به‏}‏ أَيْ‏:‏ نِعمَ شيئاً يعظكم به، وهو القرآن ‏{‏إنَّ الله كان سميعاً‏}‏ لمقالتكم في الأمانة والحكم ‏{‏بصيراً‏}‏ بما تعملون فيها، قال أبو روق‏:‏ ‏"‏ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعثمان‏:‏ أعطني المفتاح، فقال‏:‏ هاكَ بأمانة الله، ودفعه إليه، فأراد عليه السَّلام أن يدفعه إلى العباس، فنزلت هذه الآية، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعثمان‏:‏ هاك ‏[‏بأمانة الله‏]‏، خالدةً تالدةً، لا ينزعها عنكم إلاَّ ظالم، ثمَّ إنَّ عثمان هاجر ودفع إلى أخيه شيبة، فهو في ولده إلى اليوم ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 64‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏59‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏60‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ‏(‏61‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ‏(‏62‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم‏}‏ وهم العلماء والفقهاء‏.‏ وقيل‏:‏ الأمراء والسَّلاطين، وتجب طاعتهم فيما وافق الحقَّ‏.‏ ‏{‏فإن تنازعتم‏}‏ اختلفتم وتجادلتم وقال كلُّ فريق‏:‏ القولُ قولي‏:‏ فَرُدُّوا الأمر في ذلك إلى كتاب الله وسنَّة رسوله ‏{‏ذلك خيرٌ‏}‏ أََيْ‏:‏ ردُّكُمُ ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة، وردُّك التجادل ‏{‏وأحسن تأويلاً‏}‏ وأحمدُ عاقبةً‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الذين يزعمون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وقع نزاعٌ بين يهوديِّ ومنافق، فقال اليهوديُّ‏:‏ بيننا أبو القاسم، وقال المنافق‏:‏ لا بل نُحكِّم بيننا كعب بن الأشرف، فنزلت هذه الآية‏.‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏يريدون أنْ يتحاكموا إلى الطاغوت‏}‏ ومعناه‏:‏ ذو الطُّغيان ‏{‏وقد أمروا أن يكفروا به‏}‏ أَيْ‏:‏ أُمروا أن لا يوالوا غير أهل دينهم ‏{‏ويريد الشيطان أن يضلَّهم ضلالاً بعيداً‏}‏ لا يرجعون عنه إلى دين الله أبداً، وهذا تعجيبٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من جهل مَنْ يعدل عن حكم الله إلى حكم الطَّاغوت مع زعمه بأنَّه يؤمن بالله ورسوله‏.‏

‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ أَيْ‏:‏ للمنافقين ‏{‏تعالوا إلى ما أنزل الله‏}‏ أَيْ‏:‏ في القرآن من الحكم ‏{‏وإلى الرسول‏}‏ وإلى حكم الرَّسول ‏{‏رأيت المنافقين يَصُدُّون عنك صدوداً‏}‏ يُعرضون عنك إعراضاً إلى غيرك عداوةً للدِّين‏.‏

‏{‏فكيف‏}‏ أَيْ‏:‏ فكيف يصنعون ويحتالون ‏{‏إذا أصابتهم مصيبة‏}‏ مجازاةً لهم على ما صنعوا، وهو قوله‏:‏ ‏{‏بما قدَّمت أيديهم‏}‏ وتمَّ الكلام ههنا، ثمَّ عطف على معنى ما سبق فقال‏:‏ ‏{‏ثم جاؤوك يحلفون بالله‏}‏ أَيْ‏:‏ تحاكموا إلى الطَّاغوت، وصدُّوا عنك، ثمَّ جاؤوك يحلفون، وذلك أنَّ المنافقين أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وحلفوا أنَّهم ما أرادوا بالعدول عنه في المحاكمة إلاَّ توفيقاً بين الخصوم، أَيْ‏:‏ جمعاً وتأليفاً، وإحساناً بالتَّقريب في الحكم دون الحمل على مُرِّ الحقِّ، وكلُّ ذلك كذبٌ منهم؛ لأنَّ الله تعالى قال‏:‏

‏{‏أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم‏}‏ أَيْ‏:‏ من الشِّرك والنِّفاق ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ أيْ‏:‏ اصفح عنهم ‏{‏وعظهم‏}‏ بلسانك ‏{‏وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً‏}‏ أَيْ‏:‏ خوِّفهم بالله، وازجرهم عمَّا هم عليه بأبلغ الزَّجر كيلا يستسِرُّوا الكفر‏.‏

‏{‏وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ ليطاع‏}‏ فيما يأمرُ به ويحكم، لا ليُعصى ويُطلب الحكم من غيره، وقوله‏:‏ ‏{‏بإذن الله‏}‏ أَيْ‏:‏ لأنَّ الله أذن في ذلك، وأمر بطاعته ‏{‏ولو أنهم‏}‏ أَيْ‏:‏ المنافقين ‏{‏إذ ظلموا أنفسهم‏}‏ بالتَّحاكم إلى الكفَّار ‏{‏جاؤوك فاستغفروا الله‏}‏ فزعوا وتابوا إلى الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 69‏]‏

‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ‏(‏66‏)‏ وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏67‏)‏ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏68‏)‏ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏فلا‏}‏ أَيْ‏:‏ ليس الأمر كما يزعمون أنَّهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ‏{‏وربك لا يؤمنون‏}‏ حقيقة الإِيمان ‏{‏حتَّى يحكموك فيما شجر‏}‏ اختلف واختلط ‏{‏بينهم ثمَّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً‏}‏ ضيقاً وشكَّاً ‏{‏ممَّا قضيت‏}‏ أَيْ‏:‏ أوجبتَ ‏{‏ويسلموا‏}‏ الأمر إلى الله وإلى رسوله من غير معارضةٍ بشيءٍ‏.‏

‏{‏ولو أنَّا كتبنا عليهم‏}‏ أَيْ‏:‏ على هؤلاء المنافقين ‏[‏من اليهود‏]‏ ‏{‏أن اقتلوا أنفسكم‏}‏ كما كتبنا ذلك على بني إسرائيل ‏{‏أو اخرجوا من دياركم‏}‏ كما كتبنا على المهاجرين ‏{‏ما فعلوه إلاَّ قليلٌ منهم‏}‏ للمشقَّة فيه مع أنَّه كان ينبغي أن يفعلوه ‏{‏ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به‏}‏ ما يُؤمرون به من أحكام القرآن ‏{‏لكان خيراً لهم‏}‏ في معاشهم وفي ثوابهم ‏{‏وأشدَّ تثبيتاً‏}‏ منهم لأنفسهم في الدِّين، وتصديقاً بأمر الله‏.‏

‏{‏وإذاً لآتيناهم من لدنَّا‏}‏ أَيْ‏:‏ ممَّا لا يقدر عليه غيرنا ‏{‏أجراً عظيماً‏}‏ أَيْ‏:‏ الجنَّة‏.‏

‏{‏ولهديناهم‏}‏ أرشدناهم ‏{‏صراطاً مستقيماً‏}‏ ‏[‏إلى دينٍ مستقيمٍ‏]‏ وهو دين الحنيفيَّة لا دين اليهوديَّة‏.‏

‏{‏ومَن يطع الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ قال المسلمون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما لنا منك إلاَّ الدُّنيا، فإذا كانت الآخرة رُفِعَت في الأعلى، فحزن وحزنوا، فنزلت ‏{‏ومَنْ يطع الله‏}‏ في الفرائض ‏{‏والرسول‏}‏ في السُّنن ‏{‏فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبيين‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّه يستمتع برؤيتهم وزيارتهم، فلا يتوهمنَّ أنَّه لا يراهم ‏{‏والصديقين‏}‏ أفاضل أصحاب الأنبياء ‏{‏والشهداء‏}‏ القتلى في سبيل الله ‏{‏والصالحين‏}‏ أَيْ‏:‏ أهل الجنَّة من سائر المسلمين ‏{‏وحسن أولئك‏}‏ الأنبياء وهؤلاء ‏{‏رفيقاً‏}‏ أَيْ‏:‏ أصحاباً ورفقاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 76‏]‏

‏{‏ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ‏(‏70‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ‏(‏71‏)‏ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ‏(‏72‏)‏ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏73‏)‏ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏74‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ ذلك الثَّواب، وهو الكون مع النَّبييِّن ‏{‏الفضل من الله‏}‏ تفضَّل به على مَنْ أطاعه ‏{‏وكفى بالله عليماً‏}‏ بخلقه، أَيْ‏:‏ إنَّه علامٌ لا يخفى عليه شيء، ولا يضيع عنده عمل، ثمَّ حثَّ عباده المؤمنين على الجهاد، فقال‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم‏}‏ سلاحكم عند لقاء العدوِّ ‏{‏فانفروا‏}‏ أَيْ‏:‏ فانهضوا إلى لقاء العدوِّ ‏{‏ثباتٍ‏}‏ جماعاتٍ مُتفرِّقين إذا لم يكن معكم الرَّسول ‏{‏أو انفروا جميعاً‏}‏ إذا خرج الرَّسول إلى الجهاد‏.‏

‏{‏وإنَّ منكم لَمَنْ ليُبطئنَّ‏}‏ أَيْ‏:‏ ليتخلفنَّ ويتثاقلنَّ عن الجهاد، وهم المنافقون، وجعلهم من المؤمنين من حيث إنَّهم أظهروا كلمة الإِسلام، فدخلوا تحت حكمهم في الظَّاهر ‏{‏فإن أصابتكم مصيبةٌ‏}‏ من العدوِّ، وجهدٌ من العيش ‏{‏قال قد أنعم الله عليَّ‏}‏ بالقعود حيث لم أحضر فيصيبني ما أصابكم‏.‏

‏{‏ولئن أصابكم فضلٌ من الله‏}‏ فتحٌ وغنيمة ‏{‏ليقولنَّ‏}‏ هذا المنافق قولَ نادمٍ حاسدٍ‏:‏ ‏{‏يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيماً‏}‏ أَيْ‏:‏ لأسعدَ مثل ما سعدوا به من الغنيمة، وقوله‏:‏ ‏{‏كأن لم تكن بينكم وبينه مودَّة‏}‏ متصلٌ في المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏قد أنعم الله عليَّ إذا لم أكن معهم‏}‏، ‏{‏كأن لم تكن بينكم وبينه مودَّة‏}‏‏.‏ أَيْ‏:‏ كأنْ لم يعاقدكم على الإِسلام ويعاضدكم على قتال عدوٍّكم، ولم يكن بينكم وبينه مودة في الظَّاهر، ثمَّ أمر المؤمنين بالقتال فقال‏:‏

‏{‏فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون‏}‏ أَيْ‏:‏ يبيعون ‏{‏الحياة الدُّنيا بالآخرة‏}‏ أَيْ‏:‏ بالجنَّة، أَيْ‏:‏ يختارون الجنَّة على البقاء في الدُّنيا ‏{‏ومَنْ يُقاتل في سبيل الله فيقتل‏}‏ فيستشهد ‏{‏أو يغلب‏}‏ فيظفر، فكلاهما سواءٌ، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏ ثواباً لا صفة له، ثمَّ حضَّ المؤمنين على الجهاد في سبيله لاستنقاذ ضعفة المؤمنين من أيدي المشركين، فقال‏:‏

‏{‏وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوِلدان‏}‏ وهم قومٌ بمكَّة استُضعفوا فَحُبسوا وعُذِّبوا ‏{‏الذين يقولون ربنا أخرجنا‏}‏ إلى دار الهجرة ‏{‏من هذه القرية‏}‏ مكَّة ‏{‏الظالم أهلها‏}‏ أَيْ‏:‏ جعلوا لله شركاء ‏{‏واجعل لنا من لَدُنْكَ ولياً‏}‏ أَيْ‏:‏ ولِّ علينا رجلاً من المؤمنين يوالينا ‏{‏واجعل لنا من لدنك نصيراً‏}‏ ينصرنا على عدوِّك، فاستجاب الله دعاءَهم، وولَّى عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عتَّابَ بن أسيد، وأعانهم ‏[‏الله‏]‏ به، فكانوا أعزَّ بها من الظَّلمة قبل ذلك‏.‏

‏{‏الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله‏}‏ في طاعة الله ‏{‏والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت‏}‏ أَيْ‏:‏ في طاعة الشَّيطان ‏{‏فقاتلوا أولياء الشيطان‏}‏ عبدة الأصنام ‏{‏إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفاً‏}‏ يعني‏:‏ خذلانه إيَّاهم يوم قُتلوا ببدرٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 81‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏77‏)‏ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ‏(‏78‏)‏ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏79‏)‏ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ‏(‏80‏)‏ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم‏}‏ عن قتال المشركين، وأَدُّوا ما فُرض عليكم من الصَّلاة والزَّكاة‏.‏ نزلت في قوم من المؤمنين استأذنوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهم بمكَّة في قتال المشركين، فلم يأذن لهم ‏{‏فلما كتب عليهم القتال‏}‏ بالمدينة ‏{‏إذا فريقٌ منهم يخشون الناس‏}‏ أَيْ‏:‏ عذاب النَّاس بالقتل ‏{‏كخشية الله‏}‏ كما يخشى عذاب الله ‏{‏أو أشدَّ‏}‏ أكبرَ ‏{‏خشية‏}‏ وهذه الخشية إنَّما كانت لهم من حيث طبع البشريَّة، لا على كراهية أمر الله بالقتال ‏{‏وقالوا‏}‏ جزعاً من الموت، وحرصاً على الحياة‏:‏ ‏{‏ربنا لمَ كتبت‏}‏ فرضتَ ‏{‏علينا القتال لولا‏}‏ هلاًّ ‏{‏أخرتنا إلى أجل قريب‏}‏ وهو الموت، أَيْ‏:‏ هلاَّ تركتنا حتى نموت بآجالنا، وعافيتنا من القتل، ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمَّدُ‏:‏ ‏{‏متاع الدنيا قليل‏}‏ أجل الدُّنيا قريبٌ، وعيشها قليلٌ ‏{‏والآخرة‏}‏ الجنَّةُ ‏{‏خيرٌ لمن اتقى‏}‏ ولم يُشرك به شيئاً ‏{‏ولا تظلمون فتيلاً‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تُنقصون من ثواب أعمالكم مثل فتيل النَّواة، ثمَّ أعلمهم أنَّ آجالهم لا تخطئهم ولو تمنَّعوا بأمنع الحصون، فقال‏:‏

‏{‏أينما تكونوا يردككم الموت ولو كنتم في بروج‏}‏ حصونٍ وقصور ‏{‏مشيدة‏}‏ مطوَّلة مرفوعة‏.‏ ‏[‏وقيل‏:‏ بروج السَّماء‏]‏ ‏{‏وإن تصبهم‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين ‏[‏واليهود‏]‏ ‏{‏حسنة‏}‏ خصب ورخص سعر ‏{‏يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة‏}‏ جدبٌ وغلاءٌ ‏{‏يقولوا هذه من عندك‏}‏ من شؤم محمد، وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قدم المدينة وكفرت اليهود أمسك الله عنهم ما كان قد بسط عليهم، فقالوا‏:‏ ما رأينا أعظم شؤماً من هذا، نقصت ثمارنا، وغلت أسعارنا منذ قدم علينا، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كلٌّ‏}‏ أًي‏:‏ الخصب والجدب ‏{‏من عند الله‏}‏ من قِبَل الله ‏{‏فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً‏}‏ لا يفهمون القرآن‏.‏

‏{‏ما أصابك‏}‏ يا ابن آدم ‏{‏من حسنة‏}‏ فتح وغنيمةٍ وخصبٍ فمن تفضُّل الله ‏{‏وما أصابك من سيئة‏}‏ من جدبٍ وهزيمةٍ وأمرٍ تكرهه ‏{‏فمن نفسك‏}‏ فبذنبك يا ابن آدم ‏{‏وأرسلناك‏}‏ يا محمدُ ‏{‏للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً‏}‏ على رسالتك‏.‏

‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ طاعتكم لمحمد طاعةٌ لله ‏{‏ومَنْ تولى‏}‏ أعرض عن طاعته ‏{‏فما أرسلناك عليهم حفيظاً‏}‏ أَيْ‏:‏ حافظاً لهم من المعاصي حتى لا تقع، أَيْ‏:‏ ليس عليك بأسٌ لتولِّيه؛ لأنَّك لم ترسل عليهم حفيظاً من المعاصي‏.‏

‏{‏ويقولون‏}‏ أَي‏:‏ المنافقون ‏{‏طاعةٌ‏}‏ أَيْ‏:‏ طاعةٌ لأمرك ‏{‏فإذا برزوا‏}‏ خرجوا ‏{‏من عندك بيَّت‏}‏ قدَّر وأضمر ‏{‏طائفة منهم غير الذي تقول‏}‏ لك من الطَّاعة أَيْ‏:‏ أضمروا خلاف ما أظهروا، وقدَّروا ليلاً خلاف ما أعطوك نهاراً ‏{‏واللَّهُ يكتب ما يبيِّتون‏}‏ أَيْ‏:‏ يحفظ عليهم ليُجَازَوا به ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ أَيْ‏:‏ فاصفح عنهم، وذلك أنه نُهي عن قتل المنافقين في ابتداء الإِسلام، ثمَّ نُسخ ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏جاهِد الكفَّار والمنافقين‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 87‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏83‏)‏ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ‏(‏84‏)‏ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ‏(‏86‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏أفلا يتدبرون القرآن‏}‏ أَي‏:‏ المنافقون، ‏[‏أفلا‏]‏ يتأمَّلون ويتفكرون فيه ‏{‏ولو كان‏}‏ القرآن ‏{‏من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏ بالتَّناقض والكذب، والباطل، وتفاوت الألفاظ‏.‏

‏{‏وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ نزلت في أصحاب الأراجيف، وهم قومٌ من المنافقين كانوا يُرجفون بسرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُخبرون بما وقع بها قبل أن يُخبرَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَيُضعفون قلوب المؤمنين بذلك، ويُؤذون النبيَّ عليه السَّلام بسبقهم إيَّاه بالإِخبار، وقوله‏:‏ ‏{‏أمرٌ من الأمن‏}‏ حديثٌ فيه أمنٌ ‏{‏أو الخوف‏}‏ يعني‏:‏ الهزيمة ‏{‏أذاعوا به‏}‏ أَيْ‏:‏ أفشوه ‏{‏ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم‏}‏ ولو سكتوا عنه حتى يكون الرَّسول هو الذي يُفشيه، وأولوا الأمر مثل أبي بكر وعمر وعليٍّ رضي الله عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ أمراء السَّرايا ‏{‏لعلمه الذين يستنبطونه‏}‏ يتبعونه ويطلبون علمَ ذلك‏.‏ ‏{‏منهم‏}‏ من الرسول وأولي الأمر ‏{‏ولولا فضلُ الله‏}‏ أي‏:‏ الإِسلام ‏{‏ورحمته‏}‏ القرآن ‏{‏لاتبعتم الشيطان إلاَّ قليلاً‏}‏ ممَّن عصم الله، كالذين اهتدوا بعقولهم لترك عبادة الأوثان بغير رسولٍ ولا كتابٍ، نحو زيد بن عمرو، وورقة بن نوفل، وطُلاَّب الدِّين، وهذا تذكيرٌ للمؤمنين بنعمة الله عليهم حتى سلموا من النِّفاق، وما ذُمَّ به المنافقون‏.‏

‏{‏فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلاَّ نفسك‏}‏ أَيْ‏:‏ إلاَّ فعلَ نفسك، على معنى‏:‏ أنَّه لا ضرر عليك في فعل غيرك، فلا تهتمَّ بتخلُّف مَنْ يتخلَّف عن الجهاد ‏{‏وحرِّض المؤمنين‏}‏ حُضَّهم على القتال ‏{‏عسى الله‏}‏ واجبٌ من الله ‏{‏أن يكفَّ‏}‏ يصرف ويمنع ‏{‏بأس الذين كفروا‏}‏ شدَّتهم وشوكتهم ‏{‏واللَّهُ أشدُّ بأساً‏}‏ عذاباً ‏{‏وأشدُّ تنكيلاً‏}‏ عقوبة‏.‏

‏{‏مَنْ يشفع شفاعة حسنةً‏}‏ هي كلُّ شفاعة تجوز في الدِّين ‏{‏يكن له نصيبٌ منها‏}‏ كان له فيها أجر ‏{‏ومَنْ يشفع شفاعة سيئة‏}‏ أَيْ‏:‏ ما لا يجوز في الدين أن يشفع فيه ‏{‏يكن له كفلٌ منها‏}‏ أيْ‏:‏ نصيبٌ من الوِزر والإِثم ‏{‏وكان الله على كلِّ شيءٍ مقيتاً‏}‏ مقتدراً‏.‏

‏{‏وإذا حييتم بتحيَّةٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ إذا سُلِّم عليكم بسلامٍ ‏{‏فحيوا بأحسن منها‏}‏ أَيْ‏:‏ أجيبوا بزيادةٍ على التحيَّة إذا كان المُسَلِّم من أهل الإِسلام ‏{‏أو ردُّوها‏}‏ إذا كان من أهل الكتاب‏.‏ ‏[‏فقولوا‏:‏ عليكم، ولا تزيدوا على ذلك‏]‏‏.‏ ‏{‏إنَّ الله كان على كلِّ شيء حسيباً‏}‏ ‏[‏حفيظاً‏]‏ مجازياً‏.‏

‏{‏الله لا إله إلاَّ هو ليجمعنَّكم‏}‏ أَيْ‏:‏ واللَّهِ ليجمعنَّكم في القبور ‏{‏إلى يوم القيامة لا ريبَ فيه‏}‏ ‏[‏لا شكَّ فيه‏]‏ ‏{‏ومَنْ أصدقُ من الله حديثاً‏}‏ أَيْ‏:‏ قولاً وخبراً، يريد‏:‏ أنَّه لا خُلفَ لوعده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 91‏]‏

‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏88‏)‏ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏89‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ‏(‏90‏)‏ سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏}‏ نزلت في قومٍ قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأقاموا ما شاء الله، ثمَّ قالوا‏:‏ إنَّا اجتوينا المدينة، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم أَنْ يخرجوا، فلمَّا خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلةً مرحلةً، حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المؤمنون فيهم، فقال بعضهم‏:‏ إنَّهم كفار مرتدُّون، وقال آخرون‏:‏ هم مسلمون حتى نعلم أنَّهم بدَّلوا، فبيَّن الله كفرهم في هذه الآية، والمعنى ما لكم مختلفين في هؤلاء المنافقين على فئتين، على فرقتين ‏{‏والله أركسهم‏}‏ ردَّهم إلى حكم الكفَّار من الذُّلِّ والصَّغار، والسَّبي والقتل ‏{‏بما كسبوا‏}‏ بما أظهروا من الارتداد بعدما كانوا على النِّفاق ‏{‏أتريدون‏}‏ أيُّها المؤمنون ‏{‏أن تهدوا‏}‏ أَيْ‏:‏ ترشدوا ‏{‏مَنْ أضلَّ الله‏}‏ لم يرشده الله، أَيْ‏:‏ يقولون‏:‏ هؤلاء مهتدون، والله قد أضلَّهم ‏{‏ومَنْ يضلل الله فلن تجد له سبيلاً‏}‏ أَيْ‏:‏ ديناً وطريقاً إلى الحجَّة‏.‏

‏{‏ودُّوا‏}‏ أَيْ‏:‏ هؤلاء ‏{‏لو تكفرون كما كفروا فتكونون‏}‏ أنتم وهم ‏{‏سواءً فلا تتخذوا منهم أولياء‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تُوالوهم ولا تُباطنوهم ‏{‏حتى يهاجروا في سبيل الله‏}‏ حتى يرجعوا إلى رسول الله ‏{‏فإن تولوا‏}‏ عن الهجرة وأقاموا على ما هم عليه ‏{‏فخذوهم‏}‏ بالأسر ‏{‏ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً‏}‏ أيْ‏:‏ لا تتولوهم ولا تستنصروا بهم على عدوِّكم‏.‏

‏{‏إلاَّ الذين يصلون‏}‏ أَيْ‏:‏ فاقتلوهم حيث وجدتموهم إلاَّ الذين يتصلون ويلتجئون ‏{‏إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ فيدخلون فيهم بالحلف والجوار ‏{‏أو جاؤوكم حصرت صدورهم‏}‏ يعني‏:‏ أو يتصلون بقوم جاؤوكم وقد ضاقت صدورهم بقتالكم، وهم بنو مدلجٍ كانوا صلحاً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا بيان أنَّ مَن انضمَّ إلى قومٍ ذوي عهدٍ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فله مثلُ حكمهم في حقن الدم والمال، ثمَّ نُسخ هذا كلُّه بآية السَّيف، ثمَّ ذكر الله تعالى مِنَّته بكفِّ بأس المعاهدين فقال‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ ضيق صدورهم عن قتالكم إنَّما هو لقذف الله تعالى الرُّعب في قلوبهم، ولو قوَّى الله تعالى قلوبهم على قتالكم لقاتلوكم، ‏{‏فإن اعتزلوكم‏}‏ أَيْ‏:‏ في الحرب ‏{‏وألقوا إليكم السلم‏}‏ أَي‏:‏ الصُّلح ‏{‏فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً‏}‏ في قتالهم وسفك دمائهم، ثمَّ أمره بقتال مَنْ لم يكن على مثل سبيل هؤلاء، فقال‏:‏

‏{‏ستجدون آخرين‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ هؤلاء قومٌ كانوا يظهرون الموافقة لقومهم من الكفَّار، ويظهرون الإِسلام للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، يريدون بذلك الأمن في الفريقين، فأطلع الله نبيَّه عليه السَّلام على نفاقهم، ‏[‏وهو قوله‏:‏ ‏{‏يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كلما رُدُّوا إلى الفتنة أركسوا فيها‏}‏ كلَّما دُعوا إلى الشِّرك رجعوا فيه ‏{‏وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً‏}‏ أَيْ‏:‏ حجَّة بيِّنةً في قتالهم؛ لأنَّهم غَدَرةٌ لا يُوفون لكم بعهدٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 96‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏92‏)‏ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ‏(‏93‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏94‏)‏ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏95‏)‏ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً‏}‏ ألْبَتَّةَ ‏{‏إلاَّ خطأ‏}‏ إلاَّ أنَّه قد يخطئ المؤمن بالقتل ‏{‏ومَنْ قتل مؤمناً خطأ‏}‏ مثل أن يقصد بالرَّمي غيره فأصابه ‏{‏فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله‏}‏ إلى جميع ورثته ‏{‏إلاَّ أن يصدقوا‏}‏ أَيْ‏:‏ يعفوا ويتركوا الدية ‏{‏فإن كان‏}‏ المقتول ‏{‏من قوم‏}‏ حربٍ لكم وكان مؤمناً ‏{‏فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ كفارةً للقتل، ولا دية، لأنَّ عصبته وأهله كفَّار فلا يرثون ديته ‏{‏وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ كأهل الذِّمة فتجب فيه الدِّية والكفَّارة ‏{‏فمن لم يجد‏}‏ الرَّقبة ‏{‏فصيام شهرين متتابعين توبة من الله‏}‏ أَيْ‏:‏ ليقبل الله توبة القاتل حيث لم يبحث عن المقتول وحاله، وحيث لم يجتهد حتى لا يخطئ‏.‏

‏{‏ومَنْ يقتل مؤمناً متعمداً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ غلَّظ الله وعيد قاتل المؤمن عمداً للمبالغة في الرَّدع والزَّجر‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم‏}‏ أَيْ‏:‏ سرتم ‏{‏في الأرض فتبيَّنوا‏}‏ أَيْ‏:‏ تأنَّوا وتثَّبتوا‏.‏ نزلت في رجلٍ كان قد انحاز بغنمٍ له إلى جبلٍ، فلقي سريةً من المسلمين عليهم أسامة بن زيد، فأتاهم وقال‏:‏ السَّلام عليكم، لا إله إلاَّ الله، محمد رسول الله، وكان قد أسلم، فقتله أسامة واستاقوا غنمه، فنزلت نهياً عن سفك دم مَنْ هو على مثل هذه الحالة، وذلك أنَّ أسامة قال‏:‏ إنَّما قالها مُتعوِّذاً، فقال الله‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام‏}‏ أَيْ‏:‏ حيَّاكم بهذه التَّحيَّة ‏{‏لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا‏}‏ أَيْ‏:‏ متاعها من الغنائم ‏{‏فعند الله مغانم كثيرة‏}‏ يعني‏:‏ ثواباً كبيراً لمَنْ ترك قتل مَنْ ألقى إليه السَّلام‏.‏ ‏{‏كذلك كنتم من قبل‏}‏ كُفَّاراً ضُلالاً كما كان هذا المقتول قبل إسلامِهِ، ثمَّ منَّ الله عليكم بالإِسلام كما منَّ على المقتول، أَيْ‏:‏ إنَّ كلَّ مَنْ أسلم ممَّن كان كافراً فبمنزلة هذا الذي تعوَّذ بالإِسلام قُبِلَ منه ظاهرُ الإِسلام، ثمَّ أعاد الأمر بالتبيُّن فقال‏:‏ ‏{‏فتبينوا إنَّ الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ أَي‏:‏ علم أنَّكم قتلتموه على ماله، ثمَّ حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله، وردَّ عليهم غنمه، واستغفر لأسامة، وأمره بعتق رقبةٍ‏.‏

‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضرر‏}‏ أي‏:‏ الأصحَّاء الذين لا علَّة بهم تضرُّهم وتقطعهم عن الجهاد‏.‏ لا يستوي هؤلاء ‏{‏والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين‏}‏ من أهل العذر ‏{‏درجةً‏}‏؛ لأنَّ المجاهدين باشروا الطَّاعة، والقاعدين من أهل العذر قصدوها، وإن كانوا في الهمَّة والنيَّة على قصد الجهاد، فمباشرة الطَّاعة فوق قصدها بالنِّيّة ‏{‏وكلاً‏}‏ من المجاهدين والقاعدين المعذورين ‏{‏وعد الله الحسنى‏}‏ الجنَّة ‏{‏وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين‏}‏ من غير عذرٍ ‏{‏أجراً عظيماً‏}‏‏.‏

‏{‏درجاتٍ منه‏}‏ أَيْ‏:‏ منازلَ بعضُها فوقَ بعضٍ، من منازل الكرامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 101‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏97‏)‏ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ‏(‏98‏)‏ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏99‏)‏ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏100‏)‏ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ الذين توفاهم الملائكة‏}‏ أَيْ‏:‏ قبضت أرواحهم‏.‏ نزلت في قومٍ كانوا قد أسلموا ولم يهاجروا حتى خرج المشركون إلى بدر، فخرجوا معهم فقتلوا يوم بدرٍ، فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، وقوله‏:‏ ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏ بالمقام في دار الشِّرك والخروج مع المشركين لقتال المسلمين ‏{‏قالوا‏:‏ فيم كنتم‏}‏ أَيْ‏:‏ قالت الملائكة لهؤلاء سؤال توبيخٍ وتقريع‏:‏ أكنتم في المشركين أم كنتم في المسلمين‏؟‏ فاعتذروا بالضَّعف عن مقاومة أهل الشِّرك في دارهم ف ‏{‏قالوا كنا مستضعفين في الأرض‏}‏ أَيْ‏:‏ في مكة، فحاجَّتهم الملائكة بالهجرة إلى غير دارهم و‏{‏قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً‏}‏ أخبر الله تعالى أنَّ هؤلاء من أهل النَّار، ثمَّ استثنى من صدق في أنَّه مستضعفٌ فقال‏:‏ ‏{‏إلاَّ المستضعفين‏}‏ أي‏:‏ الذين يوجدون ضعفاء ‏{‏لا يستطيعون حيلة‏}‏ لا يقدرون على حيلةٍ ولا نفقةٍ ولا قوَّةٍ للخروج ‏{‏ولا يهتدون سبيلاً‏}‏ لا يعرفون طريقاً إلى المدينة‏.‏

‏{‏ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً‏}‏ أَيْ‏:‏ مهاجراً ومتحوَّلاً ‏{‏كثيراً وسعة‏}‏ في الرِّزق ‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ نزلت في حبيب بن ضمرة اللَّيثي، وكان شيخاً كبيراً خرج متوجِّهاً إلى المدينة فمات في الطَّريق، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو وافى المدينة لكان أتمَّ أجراً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبر أنَّ مَنْ قصد طاعةً، ثمَّ أعجزه العذر عن تمامها كتب الله ثواب تمام تلك الطَّاعة، ومعنى ‏{‏وقع أجره على الله‏}‏ وجب ذلك بإيجابه‏.‏

‏{‏وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ نزلت في إباحة قصر الصَّلاة في السَّفر، وظاهر القرآن يدل على أنَّ القصر يستباح بالسَّفر والخوف، لقوله‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ أَيْ‏:‏ يقتلكم، والإِجماع منعقدٌ على أنَّ القصر يجوز في السَّفر من غير خوف، وثبتت السنَّة بهذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن ذكر الخوف في الآية، على حال غالب أسفارهم في ذلك الوقت، ثمَّ ذكر صلاة الخوف فقال‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 107‏]‏

‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏ أَيْ‏:‏ إذا كنت أيُّها النبيُّ مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم ‏{‏فأقمت لهم الصلاة‏}‏ أَي‏:‏ ابتدأت بها إماماً لهم ‏{‏فلتقم طائفة منهم معك‏}‏ نصفهم يصلُّون معك ‏{‏وليأخذوا‏}‏ أَيْ‏:‏ وليأخذ الباقون أسلحتهم ‏{‏فإذا سجدوا‏}‏ فإذا سجدت الطَّائفة التي قامت معك ‏{‏فليكونوا من ورائكم‏}‏ أَي‏:‏ الذين أمروا بأخذ السِّلاح ‏{‏ولتأت طائفة أخرى‏}‏ أَي‏:‏ الذين كانوا من ورائهم يحرسونهم ‏{‏لم يصلوا‏}‏ ‏[‏معك الركعة الأولى‏]‏ ‏{‏فليصلوا معك‏}‏ ‏[‏الركعة الثانية‏]‏ ‏{‏وليأخذوا حذرهم‏}‏ ‏[‏من عدوهم‏]‏ ‏{‏وأسلحتهم‏}‏ ‏[‏سلاحهم معهم‏]‏‏.‏ يعني الذين صلَّوا أولَّ مرَّةٍ ‏{‏وذّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم‏}‏ في صلاتكم ‏{‏فيميلون عليكم ميلة واحدة‏}‏ بالقتال ‏{‏ولا جناح عليكم إن كان بكم أذىً من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم‏}‏ ترخيصٌ لهم في ترك حمل السِّلاح في الصَّلاة، وحملُه فرضٌ عند بعضهم، وسنة مؤكدة عند بعضهم، فرخص الله لهم في تركه لعذر المطر والمرض؛ لأنَّ السِّلاح يثقل على المريض، ويفسد في المطر ‏{‏وخذوا حذركم‏}‏ أَيْ‏:‏ كونوا على حذرٍ في الصَّلاة كيلا يتغفَّلكم العدوُّ‏.‏

‏{‏فإذا قضيتُمُ الصلاة‏}‏ فرغتم من صلاة الخوف ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ بتوحيده وشكره في جميع أحوالكم ‏{‏فإذا اطمأننتم‏}‏ رجعتم إلى أهلكم وأقمتم ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏ أتمُّوهها ‏{‏إنَّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏ مفروضاً موقَّتاً فرضه‏.‏

‏{‏ولا تهنوا‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تضعفوا ‏{‏في ابتغاء القوم‏}‏ يعني‏:‏ أبا سفيان ومَنْ معه حين انصرفوا من أُحدٍ‏.‏ أمر الله تعالى نبيَّه عليه السَّلام أن يسير في آثارهم بعد الوقعة بأيَّام، فاشتكى أصحابه ما بهم من الجراحات، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون‏}‏ أَيْ‏:‏ إنْ ألمتم من جراحكم فهم أيضاً في مثل حالتكم من ألم الجراح ‏{‏وترجون من الله‏}‏ من نصر الله إيَّاكم، وإظهار دينكم ‏[‏في الدنيا‏]‏، وثوابه في العقبى ‏{‏ما لا يرجون‏}‏ هم ‏{‏وكان الله عليماً‏}‏ بخلقه ‏{‏حكيماً‏}‏ فيما حكم‏.‏

‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق‏}‏ هذه الآية وما بعدها نزلت في قصة طعمة بن أُبيرق؛ سرق درعاً، ثمَّ رمى بها يهودياً، فلما طُلبت منه الدِّرع أحال على اليهوديِّ، ورماه بالسَّرقة، فاجتمع قوم طعمة وقوم اليهوديِّ، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل قوم طعمة النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يجادل عن صاحبهم، وأن يُبرِّيَه، وقالوا‏:‏ إنك إنْ لم تفعل افتضح صاحبنا وبرئ اليهوديُّ، فهمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يفعل، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق‏}‏ في الحكم لا بالتَّعدي فيه ‏{‏لتحكم بين الناس بما أراك الله‏}‏ أَيْ‏:‏ فيما علَّمك الله ‏{‏ولا تكن للخائنين‏}‏ طعمة وقومه ‏{‏خصيماً‏}‏ مخاصماً عنهم‏.‏

‏{‏واستغفر الله‏}‏ من جدالك عن طعمة، وهمِّك بقطع اليهوديِّ‏.‏

‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏ يخونونها بالمعصية؛ لأنَّ وبال خيانتهم راجعٌ عليه‏.‏ يعني‏:‏ طعمة وقومه ‏{‏إنَّ الله لا يحبُّ مَنْ كان خوَّاناً أثيماً‏}‏ أَيْ‏:‏ طعمة، لأنَّه خان في الدِّرع، وأَثِم في رميه اليهوديَّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 114‏]‏

‏{‏يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏109‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏‏}‏

‏{‏يستخفون‏}‏ يستترون بخيانتهم ‏{‏من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم‏}‏ عالم بما يخفون ‏{‏إذ يبيِّتون‏}‏ يُهيِّئون ويُقدِّرون ليلاً ‏{‏ما لا يرضى من القول‏}‏ وهو أنَّ طعمة قال‏:‏ أرمي اليهوديَّ بأنَّه سارق الدِّرع، وأحلف أنِّي لم أسرق فيقبل يميني؛ لأنِّي على دينهم ‏{‏وكان الله بما يعملون محيطاً‏}‏ عالماً، ثمَّ خاطب قوم طعمة فقال‏:‏ ‏{‏ها أنتم هؤلاء جادلتم‏}‏ خاصمتم ‏{‏عنهم‏}‏ عن طعمة وذويه ‏{‏في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة‏}‏ أَيْ‏:‏ لا أحد يفعل ذلك، ولا يكون في ذلك اليوم عليهم وكيلٌ يقوم بأمرهم ويخاصم عنهم، ثمَّ عرض التَّوبة على طعمة وقومه بقوله‏:‏ ‏{‏ومَنْ يعمل سوءاً‏}‏ معصيةً كما عمل قوم طعمة ‏{‏أو يظلم نفسه‏}‏ بذنبٍ كفعل طعمة ‏{‏ثم يستغفر الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ثمَّ ذكر أنَّ ضرر المعصية إنَّما يلحق العاصي، ولا يلحق الله من معصيته ضررٌ، فقال‏:‏ ‏{‏ومَنْ يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً‏}‏ بالسَّارق ‏{‏حكيماً‏}‏ حكم بالقطع على طعمة‏.‏

‏{‏ومَنْ يكسب خطيئةً‏}‏ ذنباً بينه وبين الله تعالى‏.‏ يعني‏:‏ يمينه الكاذبة أنَّه ما سرق ‏{‏أو إثماً‏}‏ ذنباً بينه وبين النَّاس‏.‏ يعني‏:‏ سرقته ‏{‏ثمَّ يرمِ به‏}‏ أَيْ‏:‏ بإثمه ‏{‏بريئاً‏}‏ كما فعل طعمة حين رمى اليهوديَّ بالسَّرقة ‏{‏فقد احتمل بهتاناً‏}‏ برمي البريء ‏{‏وإثماً مبيناً‏}‏ باليمين الكاذبة والسَّرقة‏.‏

‏{‏ولولا فضلُ الله عليك ورحمته‏}‏ بالنبوَّة والعصمة ‏{‏لهمَّت‏}‏ لقد همَّت ‏{‏طائفة منهم‏}‏ من قوم طعمة ‏{‏أن يضلوك‏}‏ أَيْ‏:‏ يُخطِّئوك في الحكم، وذلك أنَّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجادل عنهم ويقطع اليهوديَّ ‏{‏وما يضلون إلاَّ أنفسهم‏}‏ بتعاونهم على الإِثم والعدوان وشهادتهم الزُّور والبهتان ‏{‏وما يضرونك من شيء‏}‏ لأنَّ الضَّرر على مَنْ شهد بغير حقٍّ، ثمَّ منَّ الله عليه فقال‏:‏ ‏{‏وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة‏}‏ أَي‏:‏ القضاء بالوحي، وبيَّن لك ما فيه الحكمة، فلمَّا بان أنَّ السَّارق طعمة تناجى قومه في شأنه، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا خير في كثير من نجواهم‏}‏ أَيْ‏:‏ مسارَّتهم ‏{‏إلاَّ مَنْ أمر‏}‏ أَيْ‏:‏ إلاَّ في نجوى من أمر ‏{‏بصدقةٍ‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ هذه الآية عامَّةٌ للناس‏.‏ يريد‏:‏ أنَّه لا خير فيما يتناجى فيه النَّاس، ويخوضون فيه من الحديث إلاَّ ما كان من أعمال البرِّ، ثمَّ بيَّن أنَّ ذلك ينفع مَن ابتغى به ما عند الله، فقال‏:‏ ‏{‏ومَنْ يفعل ذلك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ثمَّ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على طعمة بالقطع، فخاف على نفسه الفضيحة، فهرب إلى مكة ولحق بالمشركين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 119‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏‏}‏

‏{‏ومَنْ يشاقق الرسول‏}‏ أَيْ‏:‏ يخالفه ‏{‏من بعد ما تبيَّن له الهدى‏}‏ الإِيمان بالله ورسوله، وذلك أنَّه ظهر له من الآية ما فيه بلاغ بما أطلع الله سبحانه على أمره، فعادى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد وضوح الحجَّة وقيام الدليل ‏{‏ويتبع غير سبيل المؤمنين‏}‏ غير دين الموحِّدين ‏{‏نوله ما تولى‏}‏ ندعه وما اختار لنفسه ‏{‏ونصله جهنم‏}‏ ندخله إيَّاها ونلزمه النَّار، ثمَّ أشرك بالله طعمة فكان يعبد صنماً إلى أن مات، فأنزل الله فيه‏:‏

‏{‏إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ثمَّ نزل في أهل مكة‏:‏

‏{‏إن يدعون من دونه‏}‏ أَيْ‏:‏ ما يعبدون من دون الله ‏{‏إلاَّ إناثاً‏}‏ أَيْ‏:‏ أصنامهم اللاَّت والعزَّى ومناة ‏{‏وإن يدعون إلاَّ شيطاناً مريداً‏}‏ ما يعبدون بعبادتهم لها إلاَّ شيطاناً خارجاً عن طاعة الله تعالى‏.‏ يعني‏:‏ إبليس؛ لأنَّهم أطاعوه فيما سوَّل لهم من عبادتها‏.‏

‏{‏لعنه الله‏}‏ دحره وأخرجه من الجنَّة ‏{‏وقال‏}‏ يعني إبليس‏:‏ ‏{‏لأتخذنَّ من عبادك‏}‏ بإغوائي وإضلالي ‏{‏نصيباً مفروضاً‏}‏ معلوماً، أَيْ‏:‏ مَن اتَّبعه وأطاعه‏.‏

‏{‏ولأُضلنَّهم‏}‏ عن الحقِّ ‏{‏ولأمنينَّهم‏}‏ أن لا جنَّة ولا نار‏.‏ وقيل‏:‏ ركوب الأهواء‏.‏ ‏{‏ولآمرنَّهم فليبتكنَّ آذان الأنعام‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ فليقطعنَّها‏]‏ يعني‏:‏ البحائر، وسيأتي بيان ذلك فيما بعد ‏[‏في سورة المائدة‏]‏‏.‏ ‏{‏ولآمرنهم فليغيرن خلق الله‏}‏ أَيْ‏:‏ دينه‏.‏ يكفرون ويحرِّمون الحلال، ويحلون الحرام ‏{‏ومَنْ يتخذ الشيطان ولياً من دون الله‏}‏ أيْ‏:‏ ‏[‏مَنْ‏]‏ يُطعه فيما يدعو إليه من الضَّلال ‏{‏فقد خسر خسراناً مبيناً‏}‏ خسر الجنَّة ونعيمها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 126‏]‏

‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ‏(‏122‏)‏ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ‏(‏124‏)‏ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ‏(‏125‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ‏(‏126‏)‏‏}‏

‏{‏يعدهم‏}‏ طول العمر في الدُّنيا ‏{‏ويمنيهم‏}‏ نيل المراد منها ‏{‏وما يعدهم الشيطان إلاَّ غروراً‏}‏ أَيْ‏:‏ إلاَّ ما يغرُّهم من إيهام النَّفع فيما فيه الضِّرر‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏ أَي‏:‏ الذين اتَّخذوا الشَّيطان وليَّاً ‏{‏مأواهم‏}‏ مرجعهم ومصيرهم ‏{‏جهنم ولا يجدون عنها محيصاً‏}‏ معدلاً‏.‏

‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب‏}‏ نزلت في كفَّار قريش واليهود‏.‏ قالت قريش‏:‏ لا نُبعث ولا نُحاسب، وقالت اليهود‏:‏ ‏{‏لن تمسَّنَا النَّارُ إلاَّ إيَّاماً معدودةً‏}‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ أَيْ‏:‏ ليس الأمر بأمانيِّ اليهود والكفَّار ‏{‏مَنْ يعمل سوءاً‏}‏ كفراً وشركاً ‏{‏يُجزَ به ولا يجد له من دون الله ولياً‏}‏ يمنعه ‏{‏ولا نصيراً‏}‏ ينصره، ثمَّ بيَّن فضيلة المؤمنين على غيرهم بقوله‏:‏

‏{‏ومن يعمل من الصالحات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وبقوله‏:‏

‏{‏ومَنْ أحسن ديناً ممَّن أسلم وجهه‏}‏ أَيْ‏:‏ توجَّه بعبادته إلى الله خاضعاً له ‏{‏وهو محسنٌ‏}‏ مُوَحِّدٌ ‏{‏واتَّبع ملَّة إبراهيم حنيفاً‏}‏ ملَّةُ إبراهيم داخلةٌ في ملَّة محمد عليهما السَّلام، فمَنْ أقرَّ بملَّة محمَّدٍ فقد اتَّبع ملَّة إبراهيم عليه السَّلام ‏{‏واتخذ الله إبراهيم خليلاً‏}‏ صفيَّاً بالرِّسالة والنُّبوَّة، مُحبَّاً له خالص الحبِّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏127- 134‏]‏

‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ‏(‏127‏)‏ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏128‏)‏ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏129‏)‏ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‏(‏130‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ‏(‏131‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏132‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ‏(‏133‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏134‏)‏‏}‏

‏{‏ويستفتونك‏}‏ يطلبون منك الفتوى ‏{‏في النساء‏}‏ في توريثهنَّ‏:‏ كانت العرب لا تورث النِّساء والصِّبيان شيئاً من الميراث ‏{‏قل الله يفتيكم فيهنَّ وما يتلى عليكم‏}‏ أَي‏:‏ القرآن يُفتيكم أيضاً‏.‏ يعني‏:‏ آية المواريث في أوَّل هذه السورة ‏{‏في‏}‏ ميراث ‏{‏يتامى النساء‏}‏؛ لأنَّها نزلت في قصَّة أم كجَّة، وكانت لها بنات ‏{‏اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهنَّ‏}‏ أَيْ‏:‏ فُرض لهن من الميراث ‏{‏وترغبون‏}‏ عن ‏{‏أن تنكحوهنَّ‏}‏ لدمامتهنَّ‏.‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ نزلت في اليتيمة يرغب وليها عن نكاحها، ولا يُنكحها فيعضلها طمعاً في ميراثها، فنُهي عن ذلك ‏{‏والمستضعفين من الولدان‏}‏ أَيْ‏:‏ يُفتيكم في الصِّغار من الغلمان والجواري أن تعطوهنَّ حقهنَّ ‏{‏وأن تقوموا‏}‏ أَيْ‏:‏ وفي أن تقوموا ‏{‏لليتامى بالقسط‏}‏ أَي‏:‏ بالعدل في مهورهنَّ ومواريثهنَّ ‏{‏وما تفعلوا من خير‏}‏ من حسنٍ فيما أمرتكم به ‏{‏فإنَّ الله كان به عليماً‏}‏ يجازيكم عليه‏.‏

‏{‏وإن امرأة خافت‏}‏ علمت ‏{‏من بعلها‏}‏ زوجها ‏{‏نشوزاً‏}‏ ترفُّعاً عليها لبغضها، وهو أن يترك مجامعتها ‏{‏أو إعراضاً‏}‏ بوجهه عنها ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحاً‏}‏ في القسمة والنَّفقة، وهي أن ترضى هي بدون حقِّها، أو تترك من مهرها شيئاً ليسوِّي الزَّوج بينها وبين ضرَّتها في القسمة، وهذا إذا رضيت بذلك لكراهة فراق زوجها، ولا تجبر على هذا لأنَّها إنْ لم ترض بدون حقِّها كان الواجب على الزَّوج أن يوفيها حقَّها من النَّفقة والمبيت ‏{‏والصلحُ خيرٌ‏}‏ من النُّشوز والإِعراض‏.‏ أَيْ‏:‏ إنْ يتصالحا على شيءٍ خيرٌ من أن يُقيما على النُّشوز والكراهة بينهما ‏{‏وأحضرت الأنفس الشح‏}‏ أَيْ‏:‏ شحَّت المرأة بنصيبها من زوجها، وشحَّ الرَّجل على المرأة بنفسه إذا كان غيرها أحبَّ إليه منها ‏{‏وإن تحسنوا‏}‏ العشرة والصُّحبة ‏{‏وتتقوا‏}‏ الجور والميل ‏{‏فإنَّ الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ لا يضيع عنده شيء‏.‏

‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم‏}‏ لن تقدروا على التَّسوية بينهنَّ في المحبَّة ولو اجتهدتم ‏{‏فلا تميلوا كلَّ الميل‏}‏ إلى التي تحبُّون في النَّفقة والقسمة ‏{‏فتذروها كالمعلقة‏}‏ فتدعوا الأخرى كأنَّها معلَّقةٌ لا أيِّماً ولا ذات بعل ‏{‏وإن تصلحوا‏}‏ بالعدل في القسم ‏{‏وتتقوا‏}‏ الجور ‏{‏فإنَّ الله كان غفوراً رحيماً‏}‏ لما ملت إلى التي تحبُّها بقلبك، ولمَّا ذكر جواز الصُّلح بينهما إنْ أحبَّا أن يجتمعا ذكر بعده الافتراق، فقال‏:‏

‏{‏وإن يتفرقا‏}‏ أَيْ‏:‏ إنْ أبت المرأة الكبيرة الصُّلْح، وأبت إلاَّ التَّسوية بينها وبين الشَّابَّة فتفرَّقا بالطَّلاق، فقد وعد الله لهما أن يُغني كلَّ واحدٍ منهما عن صاحبه بعد الطَّلاق من فضله الواسع بقوله‏:‏ ‏{‏يغن الله كُلاً من سعته وكان الله واسعاً‏}‏ لجميع خلقه في الرِّزق والفضل ‏{‏حكيماً‏}‏ فيما حكم ووعظ‏.‏

‏{‏إنْ يشأ يذهبكم أيها الناس‏}‏ يعني‏:‏ المشركين والمنافقين ‏{‏ويأت بآخرين‏}‏ أمثل وأطوع لله منكم‏.‏

‏{‏مَنْ كان يريد ثواب الدنيا‏}‏ أَيْ‏:‏ متاعها ‏{‏فعند الله ثواب الدنيا والآخرة‏}‏ أَيْ‏:‏ خير الدُّنيا والآخرة عنده، فليطلب ذلك منه، وهذا تعريضٌ بالكفَّار الذين كانوا لا يؤمنون بالبعث، وكانوا يقولون‏:‏ ربنا آتنا في الدنيا، وما لهم في الآخرة من خَلاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏135- 137‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏135‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏136‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ‏(‏137‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط‏}‏ قائمين بالعدل ‏{‏شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين‏}‏ أَي‏:‏ اشهدوا لله بالحقِّ، وإن كان الحقُّ على نفس الشَّاهد، أو على والديه، أو أقربيه ‏{‏إن يكن‏}‏ المشهود عليه ‏{‏غنياً أو فقيراً‏}‏ فلا تحابوا غنياً لغناه، ولا تحيفوا على الفقير لفقره ‏{‏فالله أولى بهما‏}‏ أَيْ‏:‏ أعلمُ بهما منكم؛ لأنَّه يتولَّى علم أحوالهما ‏{‏فلا تتبعوا الهوى‏}‏ في الشَّهادة، واتقوا ‏{‏إن تعدلوا‏}‏ أَيْ‏:‏ تميلوا وتجوروا ‏{‏وإنْ تلووا‏}‏ أَيْ‏:‏ تدّافعوا الشَّهادة ‏{‏أو تعرضوا‏}‏ تجحدوها وتكتموها ‏{‏فإن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله‏}‏ أَي‏:‏ اثبتوا على الإِيمان ‏{‏والكتاب الذي نزَّل على رسوله‏}‏ القرآن ‏{‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏ أَيْ‏:‏ كلِّ كتاب أنزل على نبيٍّ قبل القرآن‏.‏

‏{‏إنَّ الذين آمنوا‏}‏ أَي‏:‏ اليهود آمنوا بالتَّوراة ‏{‏ثمَّ كفروا‏}‏ بمخالفتها ‏{‏ثم آمنوا‏}‏ بالإِنجيل ‏{‏ثمَّ كفروا‏}‏ بمخالفته ‏{‏ثم ازدادوا كفراً‏}‏ بمحمدٍ ‏{‏لم يكن الله ليغفر لهم‏}‏ ما أقاموا على ما هم عليه ‏{‏ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏ سبيل هدى، ثمَّ ألحق المنافقين بهم؛ لأنَّهم كانوا يتولَّونهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏138- 142‏]‏

‏{‏بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏138‏)‏ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ‏(‏139‏)‏ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ‏(‏140‏)‏ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ‏(‏141‏)‏ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏142‏)‏‏}‏

‏{‏بشر المنافقين بأنَّ لهم عذاباً أليماً‏}‏‏.‏

‏{‏الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏ هذه الآية من صفة المنافقين، وكانوا يُوالون اليهود مخالفةً للمسلمين يتوهَّمون أنَّ لهم القوَّة والمنعة، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏أيبتغون عندهم العزَّة‏}‏ أَي‏:‏ القوَّة بالظهور على محمدٍ صلى الله عليه وسلم ‏{‏فإنَّ العزة‏}‏ أَي‏:‏ الغلبة والقوَّة ‏{‏لله جميعاً‏}‏‏.‏

‏{‏وقد نزل عليكم‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏في الكتاب‏}‏ في القرآن ‏{‏أنْ إذا سمعتم‏}‏ الكفر بآيات الله والاستهزاء بها ‏{‏فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ‏}‏ غير الكفر والاستهزاء‏.‏ يعني‏:‏ قوله في سورة الأنعام ‏{‏وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ هذه كانت مما نزل عليهم في الكتاب، وقوله‏:‏ ‏{‏إنكم إذاً مثلهم‏}‏ يعني‏:‏ إنْ قعدتم معهم راضين بما يأتون من الكفر بالقرآن والاستهزاء به، وذلك أنَّ المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن، فنهى الله سبحانه المسلمين عن مجالستهم ‏{‏إنَّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً‏}‏ يريد‏:‏ أنَّهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بالآيات يجتمعون في جهنَّم على العذاب‏.‏

‏{‏الذين يتربصون بكم‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين ينتظرون بكم الدَّوائر ‏{‏فإن كان لكم فتحٌ من الله‏}‏ ظهورٌ على اليهود ‏{‏قالوا ألم نكن معكم‏}‏ فأعطونا من الغنيمة ‏{‏وإن كان للكافرين نصيبٌ‏}‏ من الظَّفر على المسلمين ‏{‏قالوا‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏ألم نستحوذ‏}‏ ‏[‏نغلب‏]‏ ‏{‏عليكم‏}‏ نمنعكم عن الدُّخول في جملة المؤمنين ‏{‏ونمنعكم من المؤمنين‏}‏ بتخذيلهم عنكم، ومراسلتنا إيَّاكم بأخبارهم ‏{‏فالله يحكم بينكم‏}‏ يعني‏:‏ بين المؤمنين والمنافقين ‏{‏يوم القيامة‏}‏ يعني‏:‏ أنَّه أخَّر عقابهم إلى ذلك اليوم، ورفع عنهم السَّيف ‏[‏في الدُّنيا‏]‏، ‏{‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ أَيْ‏:‏ حجَّةً يوم القيامة؛ لأنَّه يفردهم بالنَّعيم، وما لا يشاركونهم فيه من الكرامات بخلاف الدُّنيا‏.‏

‏{‏إنَّ المنافقين يخادعون الله‏}‏ أَيْ‏:‏ يعملون عمل المخادع بما يظهرونه، ويبطنون خلافه‏.‏ ‏{‏وهو خادعهم‏}‏ مجازيهم جزاءَ خداعهم، وذلك أنَّهم يُعطون نوراً كما يُعطى المؤمنون، فإذا مضوا قليلاً أطفئ نورهم، وبقوا في الظُّلمة ‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة‏}‏ مع النَّاس ‏{‏قاموا كسالى‏}‏ متثاقلين ‏{‏يراؤون الناس‏}‏ ليرى ذلك النَّاس، لا لاتِّباع أمر الله‏.‏ يعني‏:‏ ليراهم النَّاس مُصلِّين لا يريدون وجه الله ‏{‏ولا يذكرون الله إلاَّ قليلاً‏}‏ لأنَّهم يعملونه رياءً وسمعةً، ولو أرادوا به وجه الله لكان كثيراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏143- 152‏]‏

‏{‏مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏143‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏144‏)‏ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ‏(‏145‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏146‏)‏ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ‏(‏147‏)‏ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ‏(‏148‏)‏ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ‏(‏149‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏150‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏151‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏152‏)‏‏}‏

‏{‏مذبذبين بين ذلك‏}‏ مُردَّدين بين الكفر والإِيمان، ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرِّحين بالشِّرك ‏{‏لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء‏}‏ لا من الأنصار، ولا من اليهود ‏{‏ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً‏}‏ من أضلَّه الله فلن تجد له ديناً‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏ يعني‏:‏ الأنصار‏.‏ يقول‏:‏ لا توالوا اليهود من قريظة والنَّضير ‏{‏أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً‏}‏ حجَّة بيِّنة في عقابكم بموالاتكم اليهود، أيْ‏:‏ إنَّكم إذا فعلتم ذلك صارت الحجُّة عليكم في العقاب‏.‏

‏{‏إنَّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏ أَيْ‏:‏ في أسفل درج النَّار ‏{‏ولن تجد لهم نصيراً‏}‏ مانعاً يمنعهم من عذاب الله‏.‏

‏{‏إلاَّ الذين تابوا‏}‏ من النِّفاق ‏{‏وأصلحوا‏}‏ العمل ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ التجأوا إليه ‏{‏وأخلصوا دينهم لله‏}‏ من شائب الرِّياء ‏{‏فأولئك مع المؤمنين‏}‏ أَيْ‏:‏ هم أدنى منهم بعد هذا كلِّه، ثمَّ أوقع أجر المؤمنين في التَّسويف لانضمامهم إليهم فقال‏:‏ ‏{‏وسوف يُؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً‏}‏‏.‏

‏{‏ما يفعل الله بعذابكم‏}‏ بعذاب خلقه ‏{‏إن شكرتم‏}‏ اعترفتم بإحسانه ‏{‏وآمنتم‏}‏ بنبيِّه ‏{‏وكان الله شاكراً‏}‏ للقليل من أعمالكم ‏{‏عليماً‏}‏ بنيَّاتكم‏.‏

‏{‏لا يحب الله الجهر بالسوء من القول‏}‏ نزلت ترخيصاً للمظلوم أنْ يجهر بشكوى الظَّالم، وذلك أنَّ ضيفاً نزل بقوم فأساؤوا قِراه، فاشتكاهم، فنزلت هذه الآية‏.‏ رخصةً في أن يشكوا، وقوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ من ظلم‏}‏ لكن مَنْ ظُلم فإنَّه يجهر بالسُّوء من القول، وله ذلك ‏{‏وكان الله سميعاً‏}‏ لقول المظلوم ‏{‏عليماً‏}‏ بما يضمره، أَيْ‏:‏ فليقل الحقِّ، ولا يتعدَّ ما اُذن له فيه‏.‏

‏{‏إن تبدوا خيراً‏}‏ من أعمال البرِّ ‏{‏أو تخفوه أو تعفوا عن سوء‏}‏ يأتيك من أخيك المسلم ‏{‏فإنَّ الله كان عفواً‏}‏ لمَنْ عفا ‏{‏قديراً‏}‏ على ثوابه‏.‏

‏{‏إنَّ الذين يكفرون بالله ورسله‏}‏ هم اليهود كفروا بعيسى عليه السَّلام والإِنجيل، ومحمدٍ عليه السَّلام والقرآن ‏{‏ويريدون أن يفرِّقوا بين الله ورسله‏}‏ بأن يؤمنوا بالله ويكفروا بالرُّسل ‏{‏ويقولون نؤمن ببعض‏}‏ الرّسل ‏{‏ونكفر‏}‏ ببعضهم ‏{‏ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً‏}‏ بين الإِيمان بالبعض، والكفر بالبعض ديناً يدينون به‏.‏

‏{‏أولئك هم الكافرون حقاً‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّ إيمانهم ببعض الرُّسل لا يُزيل عنهم اسم الكفر، ثمَّ نزل في المؤمنين‏.‏

‏{‏والذين آمنوا بالله ورسله‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏